الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
عناية الإسلام بصحة الحيوان ونسله مقال للدكتور راغب السرجاني يتحدث فيه عن حقوق الحيوانات الصحية وكفالة سلامة السلالة والنسل في الإسلام
رأينا في مقال (رعاية الكائنات الحية في الإسلام) كيف وفَّر الإسلام للحيوانات حقَّ الرعاية والعناية، حتى كان إهمال رعاية الحيوان من الأسباب الموجِبَة لعذاب النار، بل يبلغ المنهج الإسلامي أعلى ما يطمح إليه تصوُّرُ رفيقٍ بالحيوان، ذلك هو عظم الأجر الكائن في رعاية الحيوان إلى الحدِّ الذي فيه يكون إطعام الحيوان أو سقاؤه من الأعمال التي يغفر الله بها ما مضى من الذنوب ويُدخل الجنة.
ومن خلال مجموعة حقوق كفلها الإسلام للكائنات الحية، أصبح هذا العنصر البيئي قادرًا على أن يكون مجالاً خصبًا يُستثمر ليس لنفع البشر فقط، بل لنفع البشر بالشكل الأمثل.
ومن تلك الحقوق التي كفلها، الرعاية الصحية وسلامة النسل وجودته، وبيان ذلك في النقاط التالية:
أولًا: جودة السلالة:
لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إنزاء[1] الحمر على الخيل، وهو ما استنبط منه بعض العلماء القول بالحرمة أو الكراهة لهذا العمل، الذي يُضعف النسل؛ حيث إنه يُنتج البغل الذي هو أدنى في الصفات والخصائص من الخيل.
فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أُهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة فركبها، فقال عليّ رضي الله عنه: لو حملنا الحمير على الخيل فكانت لنا مثل هذه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ"[2].
وورد -أيضًا- عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدًا مأمورًا ما اختصَّنا[3] دون الناس بشيء، إلا بثلاث: أمرنا أن نُسبغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لا ننزي حمارًا على فرس"[4].
والعلماء في هذا الموضوع على قسمين: منهم من يرى حرمة أو كراهة إنزاء الحمر على الخيل، ويرى أن النهي كان لئلاَّ يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، والخيل أنفع وأفضل من البغال، وعليها الركوب والجهاد في سبيل الله، بينما لا شيء للبغال من ذلك.
والقسم الآخر: رأى أن ركوب النبي صلى الله عليه وسلم للبغل فيه جواز إنتاج البغال، ومن ثم جواز إنزاء الحمر على الفرس، ويحملون النهي الوارد في حديثي عليٍّ وابن عباس رضي الله عنهما على أنه كان خاصًّا وقت أن كانت الخيل قليلة في بني هاشم فلهذا نهي عنه، فلو كثرت الخيل فقد زالت العلَّة.
وبين الفريقين أخذٌ وردٌ في هذا الموضوع، ولكن خلاصته أنهم متفقون على المنع إذا قَلَّت الخيل أو خيف انقطاع نسلها، كما أنهم متفقون -بطبيعة الحال- على أن الأفضل هو عدم إنزاء الحمر على الفرس، فهم إذًا متفقون على الحدِّ الأدنى وهو الحماية من الانقراض أو القلَّة[5].
والذي نميل إليه في هذا الموضوع الرأي الأول القائل بالحرمة أو الكراهة؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عَلِيٍّ رضي الله عنه: "إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ". ولِمَا ذكره المباركفوري من جواز استعمال ما حُرِّم أحيانًا، قال: "في كلام الطحاوي[6] هذا أنظار كما لا يخفى على المتأمل، قال الطيبي[7]: لعلَّ الإنزاء غير جائز، والركوب والتزين به جائز، إنْ كان كالصور، فإنَّ عَمَلَها حرامٌ واستعمالها في الفرش والبسط مباح. قلتُ (المباركفوري): وكذا تخليل الخمر حرام، وأكل خلِّ الخمر جائز على رأي بعض الأئمة"[8].
وفي معنى الإنزاء قال الفقهاء بتفصيلة دقيقة فيها روح الرحمة؛ حيث إنهم منعوا أيَّ إنزاءٍ فيه ضرر أو ألم للحيوان، ولو كان إنزاء فيه تجويد النسل، قال شمس الدين الرملي[9]: "وبحث الأذرعي تحريم إنزاء الخيل على البقر لكبر آلتها، ويؤخذ منه أن كل إنزاء مضرٍّ ضررًا لا يحتمل عادة كذلك (أي: في الحرمة)، وبه يرد تنظير بعض الشارحين حيث ألحق إنزاء الخيل على الحمير بعكسه في الكراهة، نعم: إن لم يحتمل الأتان الفرس لمزيد كبر جثته اتجهت الحرمة"[10].
ثانيًا: الصحة الجيدة:
اعتنى الإسلام بصحة الكائن الحيِّ عبر كثير من التعاليم؛ فمنها الصريح القاطع المستنبط من الدليل المنطوق، ومنها ما يُستنبط بالمفهوم كما يُعَبِّر الأصوليون، وإنه ليمكن اعتبار كل ما ورد في "حقِّ الرعاية" مما يندرج تحت حقِّ الحيوان في الصحة الجيدة بطريق المفهوم.
ففي تحريم الإسلام أكل الميتة من الكائنات ما يدفع المسلم إلى العناية بالكائن الحي المأكول اللحم، حتى إذا مرض أو جُرح بما يُفضي به إلى موت سارع بذبحه؛ ليجوز له الانتفاع به، ولقد فعلت هذا -بتلقائية- جارية على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فروى كعب بن مالك رضي الله عنه "أَنَّهُ كَانَتْ لَهُمْ غَنَمٌ تَرْعَى بِسَلْعٍ، فَأَبْصَرَتْ جَارِيَةٌ لَنَا بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِنَا مَوْتًا، فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: لاَ تَأْكُلُوا حَتَّى أَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ أُرْسِلَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ يَسْأَلُهُ. وَأَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَاكَ أَوْ أَرْسَلَ فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهَا"[11].
وكذلك حَرَّم الإسلام أكل ما مات بالطرق الأخرى؛ مثل: المنخنقة؛ وهي التي ماتت خنقًا، والموقوذة؛ وهي التي ضُربت بعصًا أو حجر فماتت بذلك، والمتردِّية؛ وهي التي سقطت من شاهق فماتت، والنطيحة؛ التي ماتت بسبب نطح أختها لها بقرونها أو رأسها، فكان في هذا التحريم -من وجه آخر- حفاظٌ على صحَّة الحيوان.
قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}المائدة: 3.
كما لا يُجيز الإسلام في تقديم الأضحية أن تكون ذات عيوب، روى الترمذي وأحمد بسند صحيح عن عبيد بن فيروز مولى بني شيبان في حديثه قال: سألت البراء بن عازب ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأضاحي، أو ما نهى عنه من الأضاحي؟ فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال -ويده أطول من يدي، أو قال: يدي أقصر من يده- قال: "أَرْبَعٌ لا تَجُوزُ فِي الضَّحَايَا: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا، وَالْكَسِيرُ الَّتِي لا تُنْقِي[12]". فقلت للبراء: فإنا نكره أن يكون في الأذن نقص، أو في العين نقص، أو في السنِّ نقص. قال: فما كرهته فدعه، ولا تُحَرِّمه على أحد[13].
قال القاضي عبد الوهاب المالكي[14]: "ويُتَّقي فيها كل عيب ينقص اللحم، أو مرض الحيوان وكذلك كالأعمى وبَيِّن العور والعجفاء[15] والظلع[16] وقطع بعض الأعضاء المأكولة أو نقصانه في أصل الخلقة، وكذلك الشديدة المرض، والمكسورة القرن إنْ كان يدمى"[17].
ويلحق بهذه الأوصاف أيضًا: "الهتماء[18] والعصماء[19] والعمياء والتولاء[20] والجرباء التي كثر جربها"[21].
فكل ذلك -أيضًا- يئول في الواقع إلى مراعاة المسلمين حال الكائن الحي بصحة جيدة.
ومما نجده في الفقه الإسلامي داخلاً في باب الحرص على صحة الحيوان، ما قرَّره الفقهاء في مسائل الغصب، فكان الغاصب ملزمًا بردِّ ما غصبه، إلا ما كان ردُّه يُنتج ضررًا، فكان من هذا إذا غصب خيطًا وخاط به جرح حيوان، قال الإمام القرافي: "لا يُرَدُّ الخيط يخاط به جرح الحيوان؛ فإنه لا يحتمل النقض؛ لأن له حرمة"[22].
وحفظ الشرع حقَّ الحيوان في الصحة الجيدة حين أمر بتجنيبه أسباب المرض، بإبعاد الحيوانات المريضة عن الحيوانات السليمة؛ فلقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تختلط الحيوانات المريضة بالحيوانات الصحيحة؛ لئلاَّ تنقل إليها المرض، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ"[23]. والمُمرض: هو من كانت له إبل مرضى، والمُصحُّ: هو من كانت إبله صحيحة[24].
فكان هذا الحديث لحماية الحيوانات من خطر العدوى.
فبكل هذه الحقوق التي تَوَفَّرَتْ للكائن الحيِّ كان التشريع الإسلامي تشريعًا باهرًا وراقيًا وسابقًا لكل النظريات في هذا المجال، وقائمًا شاهدًا على أنه المنهج الرباني الذي وسع كل المخلوقات برحمته.
[1] النَّزْو: الوَثَبانُ، ومنه نَزْو التَّيس، ولا يقال إلاَّ للشاء والدَّوابِّ والبقر في معنى السِّفاد (أي: المعاشرة)، وأنزى: أي جعله ينزو، والمصدر "الإنزاء". انظر: ابن منظور: لسان العرب 15/319، والمعجم الوسيط، ص916.
[2] أبو داود: كتاب الجهاد، باب في كراهية الحمر تنزى على الخيل (2565)، والنسائي (3580) وصححه الألباني في التعليق على أصحاب السنن.
[3] أي آل البيت.
[4] أبو داود: كتاب الصلاة، باب قدر القراءة في صلاة الظهر والعصر (808)، والترمذي (1701)، والنسائي (141)، وأحمد (1977)، وصححه الألباني في التعليق على أصحاب السنن، وقال شعيب الأرناءوط في التعليق على مسند أحمد: إسناده صحيح.
[5] انظر: الطحاوي: شرح مشكل الآثار 1/204 وما بعدها، والمباركفوري: تحفة الأحوذي 5/289 وما بعدها.
[6] الإمام الطحاوي ممن يرى جواز إنزاء الحمر على الخيل، ورجح هذا الرأي في كتابه شرح مشكل الآثار.
[7] الطيبي: هو فاضل دمشقي أحمد بن أحمد بن الطيبي الشافعي (ت 981هـ = 1573م): النحوي الزاهد، تولى إمامة الجامع الأموي مدة طويلة. من كتبه: المواعظ السنية في الخطب المنبرية. انظر: الزركلي: الأعلام 1/91، 92.
[8] تحفة الأحوذي 5/290.
[9] شمس الدين الرملي: هو محمد بن أحمد بن حمزة، فقيه الديار المصرية في عصره. عُدَّ مجددَ القرن العاشر، ومولده ووفاته بالقاهرة (919هـ - 1004هـ). وَلِي إفتاء الشافعية، وجمع فتاوى أبيه، وصنف شروحًا وحواشي كثيرة، منها: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج. انظر: الزركلي: الأعلام 6/7.
[10] شمس الدين الرملي: نهاية المحتاج 6/170.
[11] البخاري: كتاب الوكالة، باب إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاة تموت أو شيئًا يفسد ذبح وأصلح ما يخاف عليه الفساد (2181)، والبيهقي (18735)، ومالك في الموطأ (640).
[12] الكسيرة التي لا تنقى؛ يعني: المهزولة. وقيل: أي ليس لها نِقْي؛ وهو الشحم، وأصله مخ العظم. ابن عبد البر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 20/165، وابن حجر العسقلاني: فتح الباري 1/198.
[13] أبو داود (2802) والنسائي (4369) وأحمد (18689)، وصححه الألباني في التعليق على أصحاب السنن، وقال شعيب الأرناءوط في التعليق على مسند أحمد: إسناده صحيح.
[14] القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر الثعلبي البغدادي 362 - 422هـ = 973 - 1031م: قاض، من فقهاء المالكية، له نظم ومعرفة بالأدب. ولد ببغداد، وولي القضاء في إسعرد في العراق، توفي بمصر. له كتاب "التلقين" في فقه المالكية، و"عيون المسائل". انظر: الزركلي: الأعلام 4/184.
[15] العجفاء: أي الهزلاء، انظر: المعجم الوسيط، ص585.
[16] الظلع هو العرج، انظر: المعجم الوسيط، ص576.
[17] التلقين 1/104.
[18] الهتماء: التي ذهب ثناياها من أصلها. ابن منظور: لسان العرب، مادة هتم 12/600.
[19] العصماء: ما انكسر غلاف قرنها.
[20] التولاء: التي تدور في المرعى ولا ترعى.
[21] سيد سابق: فقه السنة 3/322.
[22] القرافي: الذخيرة 8/327.
[23] البخاري: كتاب الطب، باب لا هامة (5437)، ومسلم: كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر... (2221).
[24] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 10/242.
التعليقات
إرسال تعليقك